*** هل النفس مجردة أم لا؟
صفحة 1 من اصل 1
*** هل النفس مجردة أم لا؟
*** هل النفس مجردة أم لا؟
هل النفس مجردة عن المادة؟:
(ونعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا؛ وبتجردها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان).
إنالا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كلإنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتناوشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أوبنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصرواللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإناربما غفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذينسميه بالبدن، ولا غفل قط عن المشهود الذي نعبّر عنه: بأنا، فهو غير البدنوغير أجزائه.
وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه:أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية، ومن حكم المادةالتغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاًللانقسام وليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيةاللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسهوجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كمايجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، فيمادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطاً غير قابلللانقسام والتجزي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر ماديكذلك ـ فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصة من خواصه،ساء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنهاجميعاً مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام،والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفسبمادية بوجه.
وأيضاً هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليسفيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل انسان يشاهد ذلكمن نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبقعليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عنالمادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن وهو التعلقالتدبيري وهو المطلوب.
وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع منالإلهيين من المتكلمين، والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردواما ذكر من البرهان بما لا يخلو من تكلف من غير طائل.
قال الماديون:إن الأبحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصهاوتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، ولم تجدأثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجودروح مجردة.
قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزيوهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذاتوضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذاالواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنهغير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هومجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنهعلى ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنهثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه علىالمشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة وروها، كالحوض الذي يردعليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملو دائماً، فما فيه منالماء يجده الحس واحداً ثاباً، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذايجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاًبل هو كثير متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلىهذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
قالوا:فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي فيالحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائجحاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزءالمركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
أقول:أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر فيسيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلا بهافهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أُقيمالبرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواصالمادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو منسنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب الماديإنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليسلها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادي به هوعدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجدما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هينتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
والذيجرّأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوهالعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي،فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الأفاعيل، فلما حصلالعلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم مازعموه في باب إثبات الصانع.
وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذهالنفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيماعلله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلىالعلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس مالا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كمامر.
وأما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة منالإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـولها وحدة اجتماعية ـ فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفسانيالبتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى وروج المشهوداتالحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليتشعري إذا فرض أن هناك أموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، وهذهالأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلانفسها، وأن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكاتالكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ ومن أين حصلت هذهالوحدة المشهودة فيها عياناً؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبهبالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدةوإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلاً، لا فينفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هيشعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لاترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمرآخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أوالخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدةالاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراكالنفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك ههنا الجزء الدماغي يدركالادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض انادراك الجزء الدماغي نفس هذه الادراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أنللجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسيةبمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صوراً حسية، فافهم ذلك.
والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجزئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته.
معأن هذا الفرض أيضاً ـ أعني أن تكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبةمشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـن فسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغوالقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعاً أمورمادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس فيهذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والماديهناك شيء؟.
قولهم: أن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدركالكثير المتجزي المتغير واحداً بسيطاً ثابتاً غلط واضح، فإن الغلطوالاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأمورالنفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاطالبيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، وكثير منمشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عندالحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهوأمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً البتة.
والأمر فيما نحن فيهمن هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرةالمتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركةغالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارجوأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة فينفسها البتة، ولا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصافالمادة العامة.
فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردهاالماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا فيالمغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدَّعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوّروهلتقرير الشهود النفساني المثبت لوجد أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لايوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هوعليه في نفسه.
وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديدفي أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية،من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلاكلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنماالكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرضالفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
وقالقوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمورالمربوطة بحياة الإنسان كالتشريح الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحيةالحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأصول في حياةالإنسان وسائر الحيوان، وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحدمنها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعةمتكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أنهذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسدبفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدنيغاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموزالحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بايجاد الروح فهيمعلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهةالعقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها علىغير الحس والتجربة، هذا.
أقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجةالماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشةأولاً: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروحوالحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العللالمادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلمبالعدم مكان عدم العلم؟.
وثانياً: بأناستناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ إلى المادة، بوضعهاالآخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلينفي الايجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الإلهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
مراااام
هل النفس مجردة عن المادة؟:
(ونعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا؛ وبتجردها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان).
إنالا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، ولا نشك أن كلإنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتناوشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أوبنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصرواللمس ونحو ذلك، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة، فإناربما غفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذينسميه بالبدن، ولا غفل قط عن المشهود الذي نعبّر عنه: بأنا، فهو غير البدنوغير أجزائه.
وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه:أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية، ومن حكم المادةالتغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاًللانقسام وليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانيةاللازمة لنفسه، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسهوجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير، كمايجد بدنه وأجزاء بدنه، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، فيمادتها وشكلها، وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنى بسيطاً غير قابلللانقسام والتجزي، كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر ماديكذلك ـ فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصة من خواصه،ساء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنهاجميعاً مادية كيفما فرضت، ومن حكم المادة التغير، وقبول الانقسام،والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفسبمادية بوجه.
وأيضاً هذا الذي نشاهده، نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليسفيه كثرة من الأجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل انسان يشاهد ذلكمن نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبقعليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عنالمادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن وهو التعلقالتدبيري وهو المطلوب.
وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، وجمع منالإلهيين من المتكلمين، والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك، وردواما ذكر من البرهان بما لا يخلو من تكلف من غير طائل.
قال الماديون:إن الأبحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصهاوتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، ولم تجدأثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجودروح مجردة.
قالوا: وسلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزيوهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذاتوضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها، وقيام الآخر مقامه، وهذاالواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، ونحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنهغير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه، بل هومجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنهعلى ما تبين بطلان الأعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنهثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه علىالمشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية وسرعة وروها، كالحوض الذي يردعليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملو دائماً، فما فيه منالماء يجده الحس واحداً ثاباً، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذايجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاًبل هو كثير متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، وعلىهذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
قالوا:فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي فيالحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الإدراكات العصبية التي هي نتائجحاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، وجزءالمركب العصبي، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
أقول:أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر فيسيرها الدقيق بالروح، ولا وجدت حكماً من الأحكام غير قابل التعليل إلا بهافهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أُقيمالبرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواصالمادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، وإثبات ما هو منسنخها، وكذا الخواص والأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب الماديإنما لها أن تحكم في الأمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة، فليسلها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادي به هوعدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجدما بين المادة التي هي موضوعها، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هينتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
والذيجرّأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوهالعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي،فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الأفاعيل، فلما حصلالعلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، ونظير هذا الزعم مازعموه في باب إثبات الصانع.
وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذهالنفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيماعلله ظاهرة، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلىالعلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا إلى النفس مالا يمكن إسناده إلى البدن البتة وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كمامر.
وأما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة منالإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـولها وحدة اجتماعية ـ فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفسانيالبتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى وروج المشهوداتالحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليتشعري إذا فرض أن هناك أموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، وهذهالأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلانفسها، وأن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكاتالكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ ومن أين حصلت هذهالوحدة المشهودة فيها عياناً؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبهبالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدةوإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلاً، لا فينفسه، والمفروض في محل كلامنا أن الإدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هيشعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لاترجع إلى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمرآخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أوالخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدةالاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراكالنفساني الواحد في نفسه، ولو قيل: إن المدرك ههنا الجزء الدماغي يدركالادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض انادراك الجزء الدماغي نفس هذه الادراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أنللجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسيةبمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صوراً حسية، فافهم ذلك.
والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجزئ في نفسه كالكلام في حصول وحدته.
معأن هذا الفرض أيضاً ـ أعني أن تكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبةمشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـن فسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغوالقوة التي فيه، والشعور الذي لها، والمعلوم الذي عندها، وهي جميعاً أمورمادية، ومن شأن المادة والمادي الكثرة، والتغير، وقبول الانقسام، وليس فيهذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف والنعوت، وليس غير المادة والماديهناك شيء؟.
قولهم: أن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدركالكثير المتجزي المتغير واحداً بسيطاً ثابتاً غلط واضح، فإن الغلطوالاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة، لا من الأمورالنفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاطالبيض، ونغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، وكثير منمشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عندالحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهوأمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً البتة.
والأمر فيما نحن فيهمن هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرةالمتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركةغالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارجوأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة فينفسها البتة، ولا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصافالمادة العامة.
فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردهاالماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا فيالمغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدَّعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوّروهلتقرير الشهود النفساني المثبت لوجد أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لايوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس والتجربة، ولا واقع الأمر الذي هوعليه في نفسه.
وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديدفي أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية،من الإدراك والإرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلاكلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنماالكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرضالفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
وقالقوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمورالمربوطة بحياة الإنسان كالتشريح الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحيةالحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأصول في حياةالإنسان وسائر الحيوان، وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحدمنها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعةمتكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع، ومن المعلوم أنهذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسدبفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدنيغاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموزالحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بايجاد الروح فهيمعلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهةالعقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها علىغير الحس والتجربة، هذا.
أقول: وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجةالماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشةأولاً: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروحوالحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العللالمادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلمبالعدم مكان عدم العلم؟.
وثانياً: بأناستناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ إلى المادة، بوضعهاالآخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلينفي الايجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الإلهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
مراااام
مواضيع مماثلة
» مصطلحات علم النفس
» مصظلحات علم النفس - الجزء الثاني
» ( جميع مصطلحات علم النفس )الجزء الاول
» ***معرفة النفس والعالم وأدراك هوية ما وراءهما
» مصظلحات علم النفس - الجزء الثاني
» ( جميع مصطلحات علم النفس )الجزء الاول
» ***معرفة النفس والعالم وأدراك هوية ما وراءهما
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى