***الرؤية العقلية
صفحة 1 من اصل 1
***الرؤية العقلية
***الرؤية العقلية
العقـــل:
بالعقلنقول إنه بدون رؤية فالحركة مجازفة بالغة الخطورة. والإنسان كأحد مفرداتهذا الوجود يتحرك مع الكون كله نحو الغد، والغد مجهول، والتحرك في المجهوليلزمه مرشدات، نور وخريطة وبوصلة لتحديد اتجاه الحركة وتعديله كل فترة.مطلوب رؤية للكون الذي نعيش فيه، لأنه يحتوينا ونخضع لسننه وحركتهوتقلباته.
زمن المــاديـــه:
وفي زمنالمادية الصارخة بقسوتها وعنفوانها، يحسب الكثير من الناس أن الرؤية هيمجرد الرؤية الحسية المشاهدة بالعين، وربما ما يدرك بالحواس الخمس أوبالأجهزة المادية التي صنعها الإنسان، ولا يعترفون بغير ذلك، وتلك بدايةخاطئة تغرق الإنسان في ظلمات مهلكات، ومَن يفعل ذلك يكون كمن يختار العمى.فالحواس بدون النشاط العقلي (المعنوي) تصبح محدودة الفائدة، وتعمل بالفطرةشبه الآلية ـ بدون تصور ـ كما هو الحال عند الأنعام.
ـ محدودية الحواس وزيغها:
بصرالإنسان لا يستطيع أن يستشعر إلا في أضيق نطاق كمّاً وكيفاً، ضيق في ضيق.فالمشاهدة المباشرة للأجسام المعتمة محدودة كمّاً بعشرات الكيلومترات، أمامن حيث النوع فالانسان لا يدرك من الأشعة إلا في النطاق الضيق المحصور بينعالمي الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. وخارج هذا النطاق الضيقجداً فالإنسان في هذه الدنيا أعمى بشهادات المختبرات والعلم الحديث. وحتىفي نطاق الألوان التي نعرفها فما نراه أو نعيه قد يكون غير الحقيقة تماماًوالإشارات التي نستقبلها في زمن متقارب جداً يتعامل المخ معها وكأنهامتزامنة.
ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان أخبرنا ربنا ـ تبارك اسمه ـبقصور أبصارنا عن رؤية الشيطان وهو يسرح بيننا، إذ يقول عز من قائل: ( ...إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ... ) الآية 27، سورة الأعراف.والثقوب السوداء في السماء يتعذر رؤيتها برغم عملقتها في السماء الدنيا،لأنها تبتلع كل ما يصادفها حتى الضوء الذي هو وسيط الرؤية البصرية.
ويرىالإنسان الأشياء المجسمة وهذه تسمى رؤية ـ مجازاً ـ أو رأى العين وهذهالمجسمات لا يشترط أن تكون هي الحقيقة، بل غالباً ما تكون الحقيقة غير ذلكوالسراب أوضح مثال على ذلك، يحسبه الظمآن ماء، وهذا خطأ في الحساب العقلي.فوظيفة العين هي النظر أما البصر فهو وظيفة العقل. وزيغ البصر سببه عقليقبل أن يكون بسبب العين، فالبصر يزيغ، والأمثلة المادية على زيغ البصرعديدة وتفوق الحصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في محكمالتنزيل بشأن ملكة سبأ: ( ... فلما رأته حسبته لجة ... ) الآية 44، سورةالنمل. أي أنها نظرته بعينيها السليمتين، ولكن حسبته بعقلها المذهول، وعلىذلك كانت النتيجة والتصرف الخاطئ، (وكشفت عن ساقيها).
بالنسبة للقضاياالمعنوية فالعمى والصمم والبكم أشد وأخطر من القضايا المجسمة مادياً، لأنالحاسة هنا محدودة الحيلة وغير واضحة المعالم أو ربما لا حيلة لها، فهل آنللإنسان أن يتواضع! وكثيراً ما نسمع قائلاً صادقاً يقول: رأيي في هذهالمسألة كذا وكذا. فيرد عليه آخر أصدق منه قائلاً: إنني أرى غير ذلك. يحدثذلك في الأمور المعنوية كثيراً، فبماذا يرى كل منهما رأيه؟ بأي حاسة، أوبأي وسيلة إدراك؟ بل إن الإنسان يبيت برأي ويصبح برأي آخر.
وإن كانعشرة أفراد أو أكثر يتحاورون في قضية، فكيف يراها كل منهم بصورة مختلفةوهو صادق! هل حقيقة القضية متعددة؟ الجواب: لا، إنها نفس القضية، ولكن قدتكون عديدة الوجوه، وهي في الغالب كذلك. وسبب الاختلاف أن كل شخص يرىالقضية بوسيلة رؤية مختلفة، وهذه الوسيلة هي العقل. وأحياناً يقال إن كلشخص ينظر للقضية من وجهة نظره، كيف والمسألة ليست بصرية؟ إنها الرؤيةبالعقل وهي أعمق من رؤية البصر أو إدراك الحواس. الرؤية تبنى علىالمعلومات التي تتدفق على العقول ليل نهار، وعلى الخبرات والخلفيات التيتتشكل بها. ولذلك فالرؤية المعنوية ذات طبيعة ديناميكية متطورة وليستاستاتيكية، وعليه فلا بأس من تغير الرؤية فذلك هو الأمر الطبيعي طولالعمر، ولكن الخطورة تكون في كثرة التذبذب أو ضعف الرؤية.
والتفاوتالشديد في الرؤى يمكن أن يؤدي إلى الصدام، فالآخر يرى الشيء (أو يراك)بعقله هو وليس بعقلك أنت، وكل منكما لا يرى الحقيقة مكتملة بل تتفاوتالرؤى في إدراك ما يتيسر من الحقيقة. ومن المهم والمفيد أن تضع رؤية الآخرلك في الاعتبار، لأنها أساس تصرفه تجاهك. ويمكن تغيير هذه الرؤية نسبياًبتوصيل بعض المعلومات ليقين الآخر، وذلك يحتاج لصبر وتحين الفرص المناسبة.
أيضاًمن تكون حدود رؤيته محصورة في بضع سنين أشد تواضعاً ممن تكون رؤيته ممتدةلعشرات السنين وكلاهما حبيس في ظلمات المادة وفي أوحالها، أما مَن تنطلقبصيرته نحو الخلود فتكون رؤيته نورانية وغايته عظمى ومداركه أوسع.
ـ تأثير المعاني على الرؤية:
الرؤيةتكون بالخلفية المعلوماتية للعقل، أي أن الرؤية إدراك عقلي. والمجهولمنعدم الرؤية، فالإنسان يرى (أو يدرك من) الحقيقة بقدر ما لديه من معارفومعلومات صحيحة عنها. فصاحب العلم الغزير في مسألة ما تكون رؤيته لهاجيدة، وصاحب العلم المحدود بقضية ما تكون رؤيته لها قاصرة. والمعلوماتالصحيحة تدل على نسبة من الحقيقة بقدر اكتمال المعلومات وحسن تنظيمها.والمعلومات الخاطئة تدل على وهم لا وجود له في الحقيقة. والمعلومات التيهي مخاليط من الصحة والخطأ تدل على صور مزيفة للحقيقة ولكن كثرة إعمالالعقل فيها يمكن من تنقيتها. ومعلومات العقل التي تشكل أساس رؤيته لهاأكثر من مصدر:
1 ـ إدراك بالحواس والتجارب والخبرة، وهذا المصدر لا يخلو من الزيغ والقصور ويجدى فيه التطوير المستمر، وهو مطلوب.
2 ـأخذ عن مبلغين ليسوا كلهم صادقين ولا أقوياء الذاكرة، لذلك يلزم التيقن منصدقهم قبل الأخذ عنهم، أو عن مُعلم لا يخلو من النقص، فيلزم الحذر.
3 ـ استنتاج عقلي وإدراك للمعاني لا يخلو من الخطأ، ولذلك يحتاج لمراجعة.
إذنمعلومات الإنسان هي مخاليط ولذلك فرؤيته للحقيقة مهزوزة ـ حتى في أحسنالحالات ـ ، ولهذا السبب يجب أن يكون العقل أنشط ما يتيسر أو ما يمكن.
مماسبق، يتبين أن رؤية ما يتيسر من الحقيقة في الدنيا يلزمها بصيرة، ولا تكفيالأبصار ولا الحواس ولا الجوارح. وفي الشكل نحاول تصور علاقة البصيرةبالعقل وعلاقة العقل بالجوارح:
(صورة) تصور اتصال الحواس والجوارح والبصيرة بالعقل
والحقيقةليست كلها مشهودة، بل لها شق يمكن مشاهدته ولا يجوز إنكاره، وشقها الأعظمغيبي يتعذر مشاهدته، وليس من العقل إنكاره أو رفضه، إلا إذا توفر لدينادليل يدحضه. ولكن بعض المسائل الغيبية يمكن الاستدلال عليها بما وهبناالله من عقل. ومَن يتجاهل الشق الغيبي فسوف ينحصر تفكيره في حدود الحواسوالجوارح، والذهن وسيظل يدور في حدودهما المحدودة، ولن يشعر بالراحةالنفسية أبداً ما دام على هذا الحال، برغم ما قد يتوصل إليه من نتائجمادية نتيجة المجهود الذهني المضني.
أما مَن يفتح عقله لفكرة وجود شقغيبي ـ تدل عليه المعاني ـ يقابل الشق المشاهد، فسوف يجد أن القضية صارتأكمل وأرحب بكثير مما كان يظن، وأن للعقل رؤية أبعد وأعمق مما تلمسهالحواس وأن ما لدى الإنسان من علوم ومعارف هي القاعدة التي يرتفع فوقها لاليغتر، ولكن ليتمكن من حسن الرؤية وسعة الأفق.
فمن يُحاط علماًوتأكيداً بثلاثة أرباع القضية ـ مثلاً ـ يمكنه الاستدلال على الربع الباقيأو توقع هيئته أو حالته ويمكنه تقييم الخبر الخاص به ـ عقلياً ـ وإلا فماالفرق بين الإنسان وبين العجماوات! وما معنى التصور؟ ولنضرب أمثلةكالموضحة في الشكل الآخر. ففي شكل (A) يمكن بالعقل، وبالعقل فقط، أن ندركأن الرقم الغائب (الخفي) في المستطيل الأخير من الشكل هو العدد 10، فإنأتانا مبلغ يبلغنا بذلك فيجب على العقلاء أن يرحبوا بهذا التبليغ، لأنهيتفق مع ما عرفوه ورأوه بعقولهم، قبل أن يأتيهم خبره أو يتجسد أمام أعينهم.
وإذاجاء مبلغ يقول بأن الرقم المغيب من المستطيل الأخير في شكل (B) هو الرقم 8فسوف يكون الرفض هو الأسبق إلى حين تقديم دليل وشرح وتعليل التناقض القائمبين الاستنتاج العقلي والخبر المتجسد أو المبلغ، لأن العقل يرى من السياقن الرقم المغيب هو 0 . وتلك أيضاً رؤية عقلية بمعلومية معلومات (أرقام)مشاهدة وواضحة في المستطيلات الخمسة التي تسبق المستطيل موضع الخلاف.B/C/A
(أمثلة الاستدلال العقلي
والآن نترك للعقل المتجرد من عقابيله ـ مهما كانت بساطته أو عبقريته ـ ليكمل المستطيل الأخير في شكل (C)، فبماذا سيكمله؟
فعلاًلقد كنا في حالة عدم (موت أول)، ثم أصبحنا في حالة حياة، وحالة الموتالثاني ماثلة أمام أعيننا يومياً ونحن ميتون لا محالة. إذن المستطيلاتالثلاثة من شكل (C) مكتملة أمام أعيننا وحالة المستطيل الرابع هي المغيبةمؤقتاً عن حواسنا، ولكن هل يجوز أن تكون غائبة عن عقولنا!
ـ الرؤية بالعقل:
يتميزالإنسان بين بقية المخلوقات التي نعرفها بالقدرة على التصور وإدراكالأشياء غير الحاضرة أمامه، أي الغائبة. فالإنسان يستطيع بناء علىالمعلومات والوصف أن يكون قدراً معتبراً من الصورة أو الموقف ويستخلص منهانتائج وتكون له رؤية حول موقف أو مشهد لم يشهده، أو لم يتجسد بعد، وفيالتقنيات الحديثة أصبح للنمذجة والمحاكاة دور نشط في استحضار غير الموجودحقيقة، ويُستنتج من ذلك نتائج علمية يبنى عليها.
ومن أمثلة الرؤيةبالعقل، ما جاء في السيرة العطرة أنه (ص) كان يحفر في الخندق، ليحتميالمسلمون خلفه، من شدة طغيان قوى الشر، ويحدثهم عن فتح حصون كسرى بن هرمز،رغم عسر الموقف وضعف المقومات المادية. تلك عظمة البصيرة، وقدرة العقل علىتخطي حواجز الزمان والمكان.
ومن خلال النصوص القرآنية يرقى بنا ربنا فيمستوى الخطاب على أساس أنه ـ جل شأنه ـ قد أنعم علينا وزودنا بنعمة العقلالذي يمكننا من التصور واستحضار مواقف لم نحضرها، وقد ورد ذلك في مواضععديدة، فمثلاً يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) الآية6 سورة الفجر. (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) الآية 1، سورة الفيل.مشاهد لم يشهدها المخاطب، لا رسول الله (ص) ولا أتباعه، ولكنها كانتمشهورة وأخبارها معروفة وشهودها حضور، ويمكن للعقل أن يتصورها ويستخلصمنها النتائج والعبر، وماذا يفيد حضور المشهد أكثر من ذلك! وكل مشهد حاضرسوف يصبح بعد لحظات غير مشهود، ولكن تبقى العبر والمواعظ لمن يريد أنيتعظ. إنّه الأسلوب القرآني الفريد للتدريب على الإيمان بالغيب، لمن يريدأن يتدرب ويرقى عقلياً. إن للمشهد مكونات مادية تتبدل وتزول لكن يبقىالمعنى. والكثير من المشاهد القرآنية عرضت دون التركيز على مادياتها أوتواريخها أو مواقعها، بل كان التركيز على معانيها، فهي التي تفيد.
غيبالماضي أيسر قبولاً وتصوراً من غيب المستقبل، لأن غيب الماضي يكونموصوفاً، وأحياناً يكون وصفه مفصلاً وموثقاً وبقاياه وآثاره ما زالتموجودة، أما غيب المستقبل فمجرد إخبار موجز بلا بقايا ولا آثار ولا شهودولا وثائق، ولذلك فيحتاج إلى جهد أكبر للتصور ومصدر موثوق، لزوم التصديق.
(... ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجواأنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتمعن آياته تستكبرون) الآية 93، سورة الأنعام. مشاهد لم يشهدها أحد من أحياءالبشر، ولكن على العاقل أن يتصورها، فإن لم يستطع فليحذرها ويتقي عذابها.
ـ خصوصية الرؤية:
الإنسانالمبصر يرى لنفسه، أما الأعمى فيضطر للانقياد لمبصر ويفتقد نسبة كبيرة منحرية حركته مضطراً، ولا إثم عليه ولا حرج، لأن التعويض في المجال الماديمحدود ـ لحكمة ـ في هذه الحياة الدنيا. ولكن الحال يختلف في المجالالمعنوي ولا يحتاج العاقل لأن يسلم عقله لغيره، كل عاقل مطالب بأن تكون لهرؤيته الخاصة وملزم بطائره في عنقه. يمكن أن يتحرك الإنسان بجسمه وجوارحهخلف قائده، طائعاً أو مكرهاً، ولكن يجب ألا يكون كذلك في رؤيته. يمكن أنأتفق مع القائد في كثير من النقاط والآراء لكن تظل لي رؤيتي العامةالمميزة لكياني وشخصيتي. أما تلاشي رؤية الانسان فتلك مصيبة كبرى ومثالهاالصارخ ـ لمن يعتبر ـ ورد في محكم التنزيل بتصوير بياني معجز: ( ... قالفرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) الآية 29، سورةغافر. الطاغية يريدهم ألا يروا إلا من خلال عقله رغم غبائه وحماقته، يريدتعطيل عقولهم وتعمية بصائرهم، حتى لا يبصروا الحقيقة، فينكشف زيف أسسالطغيان.
الرؤية الصحيحة تدرك ما يتيسر من الحقيقة، والرؤية المغشوشةالزائغة ترى الوهم متجسداً عنكبوتياً. وحين تزيغ الرؤية تبدو الأشياء علىغير حقيقتها، وزيغ الرؤية ينتج عن الجهل فكلما تعمق الجهل كلما زاد الزيغوتترجم إلى سلوكيات خاطئة. ولكل انسان رؤية يتصرف على أساسها، وتتباينالرؤى كالتباين بين السماء والأرض. وحالة الغفلة تجعل الانسان يرى أو يودأن يرى الأشياء متوافقة مع رؤيته وخلفيته هو، وإن كانت غير ذلك فيحاول أنيجعلها كذلك بشتى الوسائل وكلما اقتربت صورة الأشياء من الصورة التي يودهاكلما شعر بسعادة.
بالعقل نقول إن سلامة الرؤية شرط لسلامة الحركة،ولذلك فضعف البصيرة يوجب شدة الحذر، لا الاندفاع الأحمق، لكن كيف تجتمعسلامة العقل وضعف البصيرة؟ لا يجتمعان، وكذلك ضعف العقل وسلامة الرؤية لايجتمعان. الإنسان في تحريك جوارحه وفي كل نشاطاته المادية في الحياة يتجهنحو المستقبل مجبراً حتى ولو كان فكره مجذوباً للوراء، لأن الزمن محكومبأمر الله واللحظة التي تمر لا تعود أبداً، إلى يوم القيامة، لذلكفالانسان أحوج ما يكون للرؤية السليمة لما أمامه، لمستقبله، للمحصلةالنهائية التي لن تقبل التعديل ولا التصحيح.
الرؤية ليست ثابتة بلتتبدل وتتطور بتطور معلومات الانسان. ورؤية الأشياء غير الحكم عليها،فالرؤية هي أساس الحكم الحسن النية. وبما أن الرؤية تتطور بالمعلوماتفيمكن للحكم المبنى عليها أن يتغير أيضاً. ويمكن أن توجد الرؤية، كأساسللحكم في مسألة ما، دون أن يبنى عليها حكم فوري، فلا داعي لإصدار الأحكامدون ضرورة، فالرؤية في حد ذاتها نشاط عقلي مطلوب، لكن الحُكم لا يُطلبدائماً. والتأني يتيح الفرصة لمزيد من وضوح الرؤية وبالتالي سلامة الحكمفقط حين يلزم، فالانسان لا يحاسب على رؤيته، لأنها أمر داخلي ولكن يحاسبعلى ما يبنى عليها من أحكام وأفعال. رؤية العاقل خاصة به (لنفسه)، أماالحكم فقد يمس الغير، فالحذر الحذر من التسرع في إصدار الأحكام.
ـ الشيطان وحساسية الرؤية:
ماهو الحال حين يكون للشيطان نوع من الوجود في عقولنا، أو حين يحتل الشيطانالعقل! عندئذ تكون الرؤية بعيون الشيطان وتصبح التوجهات نحو ما يريدوالسلوكيات تلبي رغباته هو، وأعمالنا طاعة لأوامره غير المباشرة، ونحسبأننا نطيع عقولنا ولكن الحقيقة ليست كلها كذلك.الشيطان يجري من ابن آدممجرى الدم في العروق، كما جاء في الحديث الشريف، ولا يكف عن الوسوسة، حتىأثناء النوم يوسوس، فقط عند ذكر الله يخنس، وبعد ذلك يعود لممارسة نشاطهولا نعرف متى يتعب أو يستريح، ولا نحسب أنه يتركنا ما دامت الروح فينا.والشيطان لا نعرف له جوارح، لأن طبيعة تكوينه لا ترى لعيوننا، ولم نتأكدمن أن شيطاناً قطع طريقاً بيديه، أو أسال دماً بسكينه، أو ألقى قنبلة علىمصنع، أو نفث سموماً لوثت البيئة، ولكن الشيطان من خلال عقول أعوانه منالبشر يحرك جوارحهم لتفعل ما يريد من تضليل وإفساد.ولنتأمل بعض الجملالتلقائية التي تتداولها كل الألسنة مروراً بكل العقول في اللحظة انتفاضةعقلية (ندم) دون أن نتدبر ما وراءها! مثل:هذا تصرف غير إنساني!إنني لاأعرف كيف أقدمت على هذا الفعل!أين كان عقلي حين فعلت ذلك!هذا السلوك غيرمقبول ولا معقول!هذا العمل يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية!
مثل هذهالعبارات تشير إلى مُحرض خفي وراء الأعمال الشاذة التي تتنافى مع منطقالعقل الانساني، ولا يعقل أن يكون المحرض جماداً أو نباتاً أو حيواناً،والانسانية تتبرأ منه، إذن فمن يكون المحرض غير الشيطان الذي يعيث فساداًفي العقول الغافلة عن ذكر الله!
هناك عوامل وظروف تساعد الشيطان على افتراس العقل البشري، لأنه يكون في حالة غفلة أو ضعف أو عدم توازن، ويذكر من هذه العوامل ما يلي:
ـ الجهل وسوء الظن بالله البعد عنه.
ـ وفرة وسائل الترف والرفاهية واتباع الشهوات، فيركن العقل للكسل والخمول.
ـ شدة المرض وآلامه، مما يضيق الخلق ويضعف التحمل وينهك المخ.
وكممن البؤساء ـ الذين غرقوا في بحار الجهل والغفلة ـ كفروا في لحظاتالاحتضار وخرجوا من الدنيا سود الوجوه، خاسرين أنفسهم وأموالهم وأهليهم،تشيعهم شماتة إبليس.
إن الثانية التي تمر من عمر الكون لا تعود أبداً،ولا يوجد لحظتان في عمر الكون متماثلتان إطلاقاً، فكل لحظة فريدة بظروفهاومكوناتها وخلائقها. والدور الفطري للعقل هو إدارة الكيان البشري وتوجيههفي كل لحظة حسب الظروف التي لا تكف عن التجدد، ففي كل وقت يلزم ضبط اتجاهالحركة نحو الغاية، ومراجعة معدلاتها في حدود الطاقة. ونظراً للتبدلالمستمر للظروف والأحوال، فيجب يقظة العقل باستمرار، للتأكد من سلامةالرؤية أولاً، ثم ضبط مؤشرات الحركة ثانياً. فأي نتائج نتوقع إن تمكنإبليس من المشاركة في تشكيل الرؤية! الحذر الحذر، يا أولي الأبصار.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
مراااام
العقـــل:
بالعقلنقول إنه بدون رؤية فالحركة مجازفة بالغة الخطورة. والإنسان كأحد مفرداتهذا الوجود يتحرك مع الكون كله نحو الغد، والغد مجهول، والتحرك في المجهوليلزمه مرشدات، نور وخريطة وبوصلة لتحديد اتجاه الحركة وتعديله كل فترة.مطلوب رؤية للكون الذي نعيش فيه، لأنه يحتوينا ونخضع لسننه وحركتهوتقلباته.
زمن المــاديـــه:
وفي زمنالمادية الصارخة بقسوتها وعنفوانها، يحسب الكثير من الناس أن الرؤية هيمجرد الرؤية الحسية المشاهدة بالعين، وربما ما يدرك بالحواس الخمس أوبالأجهزة المادية التي صنعها الإنسان، ولا يعترفون بغير ذلك، وتلك بدايةخاطئة تغرق الإنسان في ظلمات مهلكات، ومَن يفعل ذلك يكون كمن يختار العمى.فالحواس بدون النشاط العقلي (المعنوي) تصبح محدودة الفائدة، وتعمل بالفطرةشبه الآلية ـ بدون تصور ـ كما هو الحال عند الأنعام.
ـ محدودية الحواس وزيغها:
بصرالإنسان لا يستطيع أن يستشعر إلا في أضيق نطاق كمّاً وكيفاً، ضيق في ضيق.فالمشاهدة المباشرة للأجسام المعتمة محدودة كمّاً بعشرات الكيلومترات، أمامن حيث النوع فالانسان لا يدرك من الأشعة إلا في النطاق الضيق المحصور بينعالمي الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. وخارج هذا النطاق الضيقجداً فالإنسان في هذه الدنيا أعمى بشهادات المختبرات والعلم الحديث. وحتىفي نطاق الألوان التي نعرفها فما نراه أو نعيه قد يكون غير الحقيقة تماماًوالإشارات التي نستقبلها في زمن متقارب جداً يتعامل المخ معها وكأنهامتزامنة.
ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان أخبرنا ربنا ـ تبارك اسمه ـبقصور أبصارنا عن رؤية الشيطان وهو يسرح بيننا، إذ يقول عز من قائل: ( ...إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ... ) الآية 27، سورة الأعراف.والثقوب السوداء في السماء يتعذر رؤيتها برغم عملقتها في السماء الدنيا،لأنها تبتلع كل ما يصادفها حتى الضوء الذي هو وسيط الرؤية البصرية.
ويرىالإنسان الأشياء المجسمة وهذه تسمى رؤية ـ مجازاً ـ أو رأى العين وهذهالمجسمات لا يشترط أن تكون هي الحقيقة، بل غالباً ما تكون الحقيقة غير ذلكوالسراب أوضح مثال على ذلك، يحسبه الظمآن ماء، وهذا خطأ في الحساب العقلي.فوظيفة العين هي النظر أما البصر فهو وظيفة العقل. وزيغ البصر سببه عقليقبل أن يكون بسبب العين، فالبصر يزيغ، والأمثلة المادية على زيغ البصرعديدة وتفوق الحصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في محكمالتنزيل بشأن ملكة سبأ: ( ... فلما رأته حسبته لجة ... ) الآية 44، سورةالنمل. أي أنها نظرته بعينيها السليمتين، ولكن حسبته بعقلها المذهول، وعلىذلك كانت النتيجة والتصرف الخاطئ، (وكشفت عن ساقيها).
بالنسبة للقضاياالمعنوية فالعمى والصمم والبكم أشد وأخطر من القضايا المجسمة مادياً، لأنالحاسة هنا محدودة الحيلة وغير واضحة المعالم أو ربما لا حيلة لها، فهل آنللإنسان أن يتواضع! وكثيراً ما نسمع قائلاً صادقاً يقول: رأيي في هذهالمسألة كذا وكذا. فيرد عليه آخر أصدق منه قائلاً: إنني أرى غير ذلك. يحدثذلك في الأمور المعنوية كثيراً، فبماذا يرى كل منهما رأيه؟ بأي حاسة، أوبأي وسيلة إدراك؟ بل إن الإنسان يبيت برأي ويصبح برأي آخر.
وإن كانعشرة أفراد أو أكثر يتحاورون في قضية، فكيف يراها كل منهم بصورة مختلفةوهو صادق! هل حقيقة القضية متعددة؟ الجواب: لا، إنها نفس القضية، ولكن قدتكون عديدة الوجوه، وهي في الغالب كذلك. وسبب الاختلاف أن كل شخص يرىالقضية بوسيلة رؤية مختلفة، وهذه الوسيلة هي العقل. وأحياناً يقال إن كلشخص ينظر للقضية من وجهة نظره، كيف والمسألة ليست بصرية؟ إنها الرؤيةبالعقل وهي أعمق من رؤية البصر أو إدراك الحواس. الرؤية تبنى علىالمعلومات التي تتدفق على العقول ليل نهار، وعلى الخبرات والخلفيات التيتتشكل بها. ولذلك فالرؤية المعنوية ذات طبيعة ديناميكية متطورة وليستاستاتيكية، وعليه فلا بأس من تغير الرؤية فذلك هو الأمر الطبيعي طولالعمر، ولكن الخطورة تكون في كثرة التذبذب أو ضعف الرؤية.
والتفاوتالشديد في الرؤى يمكن أن يؤدي إلى الصدام، فالآخر يرى الشيء (أو يراك)بعقله هو وليس بعقلك أنت، وكل منكما لا يرى الحقيقة مكتملة بل تتفاوتالرؤى في إدراك ما يتيسر من الحقيقة. ومن المهم والمفيد أن تضع رؤية الآخرلك في الاعتبار، لأنها أساس تصرفه تجاهك. ويمكن تغيير هذه الرؤية نسبياًبتوصيل بعض المعلومات ليقين الآخر، وذلك يحتاج لصبر وتحين الفرص المناسبة.
أيضاًمن تكون حدود رؤيته محصورة في بضع سنين أشد تواضعاً ممن تكون رؤيته ممتدةلعشرات السنين وكلاهما حبيس في ظلمات المادة وفي أوحالها، أما مَن تنطلقبصيرته نحو الخلود فتكون رؤيته نورانية وغايته عظمى ومداركه أوسع.
ـ تأثير المعاني على الرؤية:
الرؤيةتكون بالخلفية المعلوماتية للعقل، أي أن الرؤية إدراك عقلي. والمجهولمنعدم الرؤية، فالإنسان يرى (أو يدرك من) الحقيقة بقدر ما لديه من معارفومعلومات صحيحة عنها. فصاحب العلم الغزير في مسألة ما تكون رؤيته لهاجيدة، وصاحب العلم المحدود بقضية ما تكون رؤيته لها قاصرة. والمعلوماتالصحيحة تدل على نسبة من الحقيقة بقدر اكتمال المعلومات وحسن تنظيمها.والمعلومات الخاطئة تدل على وهم لا وجود له في الحقيقة. والمعلومات التيهي مخاليط من الصحة والخطأ تدل على صور مزيفة للحقيقة ولكن كثرة إعمالالعقل فيها يمكن من تنقيتها. ومعلومات العقل التي تشكل أساس رؤيته لهاأكثر من مصدر:
1 ـ إدراك بالحواس والتجارب والخبرة، وهذا المصدر لا يخلو من الزيغ والقصور ويجدى فيه التطوير المستمر، وهو مطلوب.
2 ـأخذ عن مبلغين ليسوا كلهم صادقين ولا أقوياء الذاكرة، لذلك يلزم التيقن منصدقهم قبل الأخذ عنهم، أو عن مُعلم لا يخلو من النقص، فيلزم الحذر.
3 ـ استنتاج عقلي وإدراك للمعاني لا يخلو من الخطأ، ولذلك يحتاج لمراجعة.
إذنمعلومات الإنسان هي مخاليط ولذلك فرؤيته للحقيقة مهزوزة ـ حتى في أحسنالحالات ـ ، ولهذا السبب يجب أن يكون العقل أنشط ما يتيسر أو ما يمكن.
مماسبق، يتبين أن رؤية ما يتيسر من الحقيقة في الدنيا يلزمها بصيرة، ولا تكفيالأبصار ولا الحواس ولا الجوارح. وفي الشكل نحاول تصور علاقة البصيرةبالعقل وعلاقة العقل بالجوارح:
(صورة) تصور اتصال الحواس والجوارح والبصيرة بالعقل
والحقيقةليست كلها مشهودة، بل لها شق يمكن مشاهدته ولا يجوز إنكاره، وشقها الأعظمغيبي يتعذر مشاهدته، وليس من العقل إنكاره أو رفضه، إلا إذا توفر لدينادليل يدحضه. ولكن بعض المسائل الغيبية يمكن الاستدلال عليها بما وهبناالله من عقل. ومَن يتجاهل الشق الغيبي فسوف ينحصر تفكيره في حدود الحواسوالجوارح، والذهن وسيظل يدور في حدودهما المحدودة، ولن يشعر بالراحةالنفسية أبداً ما دام على هذا الحال، برغم ما قد يتوصل إليه من نتائجمادية نتيجة المجهود الذهني المضني.
أما مَن يفتح عقله لفكرة وجود شقغيبي ـ تدل عليه المعاني ـ يقابل الشق المشاهد، فسوف يجد أن القضية صارتأكمل وأرحب بكثير مما كان يظن، وأن للعقل رؤية أبعد وأعمق مما تلمسهالحواس وأن ما لدى الإنسان من علوم ومعارف هي القاعدة التي يرتفع فوقها لاليغتر، ولكن ليتمكن من حسن الرؤية وسعة الأفق.
فمن يُحاط علماًوتأكيداً بثلاثة أرباع القضية ـ مثلاً ـ يمكنه الاستدلال على الربع الباقيأو توقع هيئته أو حالته ويمكنه تقييم الخبر الخاص به ـ عقلياً ـ وإلا فماالفرق بين الإنسان وبين العجماوات! وما معنى التصور؟ ولنضرب أمثلةكالموضحة في الشكل الآخر. ففي شكل (A) يمكن بالعقل، وبالعقل فقط، أن ندركأن الرقم الغائب (الخفي) في المستطيل الأخير من الشكل هو العدد 10، فإنأتانا مبلغ يبلغنا بذلك فيجب على العقلاء أن يرحبوا بهذا التبليغ، لأنهيتفق مع ما عرفوه ورأوه بعقولهم، قبل أن يأتيهم خبره أو يتجسد أمام أعينهم.
وإذاجاء مبلغ يقول بأن الرقم المغيب من المستطيل الأخير في شكل (B) هو الرقم 8فسوف يكون الرفض هو الأسبق إلى حين تقديم دليل وشرح وتعليل التناقض القائمبين الاستنتاج العقلي والخبر المتجسد أو المبلغ، لأن العقل يرى من السياقن الرقم المغيب هو 0 . وتلك أيضاً رؤية عقلية بمعلومية معلومات (أرقام)مشاهدة وواضحة في المستطيلات الخمسة التي تسبق المستطيل موضع الخلاف.B/C/A
(أمثلة الاستدلال العقلي
والآن نترك للعقل المتجرد من عقابيله ـ مهما كانت بساطته أو عبقريته ـ ليكمل المستطيل الأخير في شكل (C)، فبماذا سيكمله؟
فعلاًلقد كنا في حالة عدم (موت أول)، ثم أصبحنا في حالة حياة، وحالة الموتالثاني ماثلة أمام أعيننا يومياً ونحن ميتون لا محالة. إذن المستطيلاتالثلاثة من شكل (C) مكتملة أمام أعيننا وحالة المستطيل الرابع هي المغيبةمؤقتاً عن حواسنا، ولكن هل يجوز أن تكون غائبة عن عقولنا!
ـ الرؤية بالعقل:
يتميزالإنسان بين بقية المخلوقات التي نعرفها بالقدرة على التصور وإدراكالأشياء غير الحاضرة أمامه، أي الغائبة. فالإنسان يستطيع بناء علىالمعلومات والوصف أن يكون قدراً معتبراً من الصورة أو الموقف ويستخلص منهانتائج وتكون له رؤية حول موقف أو مشهد لم يشهده، أو لم يتجسد بعد، وفيالتقنيات الحديثة أصبح للنمذجة والمحاكاة دور نشط في استحضار غير الموجودحقيقة، ويُستنتج من ذلك نتائج علمية يبنى عليها.
ومن أمثلة الرؤيةبالعقل، ما جاء في السيرة العطرة أنه (ص) كان يحفر في الخندق، ليحتميالمسلمون خلفه، من شدة طغيان قوى الشر، ويحدثهم عن فتح حصون كسرى بن هرمز،رغم عسر الموقف وضعف المقومات المادية. تلك عظمة البصيرة، وقدرة العقل علىتخطي حواجز الزمان والمكان.
ومن خلال النصوص القرآنية يرقى بنا ربنا فيمستوى الخطاب على أساس أنه ـ جل شأنه ـ قد أنعم علينا وزودنا بنعمة العقلالذي يمكننا من التصور واستحضار مواقف لم نحضرها، وقد ورد ذلك في مواضععديدة، فمثلاً يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) الآية6 سورة الفجر. (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) الآية 1، سورة الفيل.مشاهد لم يشهدها المخاطب، لا رسول الله (ص) ولا أتباعه، ولكنها كانتمشهورة وأخبارها معروفة وشهودها حضور، ويمكن للعقل أن يتصورها ويستخلصمنها النتائج والعبر، وماذا يفيد حضور المشهد أكثر من ذلك! وكل مشهد حاضرسوف يصبح بعد لحظات غير مشهود، ولكن تبقى العبر والمواعظ لمن يريد أنيتعظ. إنّه الأسلوب القرآني الفريد للتدريب على الإيمان بالغيب، لمن يريدأن يتدرب ويرقى عقلياً. إن للمشهد مكونات مادية تتبدل وتزول لكن يبقىالمعنى. والكثير من المشاهد القرآنية عرضت دون التركيز على مادياتها أوتواريخها أو مواقعها، بل كان التركيز على معانيها، فهي التي تفيد.
غيبالماضي أيسر قبولاً وتصوراً من غيب المستقبل، لأن غيب الماضي يكونموصوفاً، وأحياناً يكون وصفه مفصلاً وموثقاً وبقاياه وآثاره ما زالتموجودة، أما غيب المستقبل فمجرد إخبار موجز بلا بقايا ولا آثار ولا شهودولا وثائق، ولذلك فيحتاج إلى جهد أكبر للتصور ومصدر موثوق، لزوم التصديق.
(... ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجواأنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتمعن آياته تستكبرون) الآية 93، سورة الأنعام. مشاهد لم يشهدها أحد من أحياءالبشر، ولكن على العاقل أن يتصورها، فإن لم يستطع فليحذرها ويتقي عذابها.
ـ خصوصية الرؤية:
الإنسانالمبصر يرى لنفسه، أما الأعمى فيضطر للانقياد لمبصر ويفتقد نسبة كبيرة منحرية حركته مضطراً، ولا إثم عليه ولا حرج، لأن التعويض في المجال الماديمحدود ـ لحكمة ـ في هذه الحياة الدنيا. ولكن الحال يختلف في المجالالمعنوي ولا يحتاج العاقل لأن يسلم عقله لغيره، كل عاقل مطالب بأن تكون لهرؤيته الخاصة وملزم بطائره في عنقه. يمكن أن يتحرك الإنسان بجسمه وجوارحهخلف قائده، طائعاً أو مكرهاً، ولكن يجب ألا يكون كذلك في رؤيته. يمكن أنأتفق مع القائد في كثير من النقاط والآراء لكن تظل لي رؤيتي العامةالمميزة لكياني وشخصيتي. أما تلاشي رؤية الانسان فتلك مصيبة كبرى ومثالهاالصارخ ـ لمن يعتبر ـ ورد في محكم التنزيل بتصوير بياني معجز: ( ... قالفرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) الآية 29، سورةغافر. الطاغية يريدهم ألا يروا إلا من خلال عقله رغم غبائه وحماقته، يريدتعطيل عقولهم وتعمية بصائرهم، حتى لا يبصروا الحقيقة، فينكشف زيف أسسالطغيان.
الرؤية الصحيحة تدرك ما يتيسر من الحقيقة، والرؤية المغشوشةالزائغة ترى الوهم متجسداً عنكبوتياً. وحين تزيغ الرؤية تبدو الأشياء علىغير حقيقتها، وزيغ الرؤية ينتج عن الجهل فكلما تعمق الجهل كلما زاد الزيغوتترجم إلى سلوكيات خاطئة. ولكل انسان رؤية يتصرف على أساسها، وتتباينالرؤى كالتباين بين السماء والأرض. وحالة الغفلة تجعل الانسان يرى أو يودأن يرى الأشياء متوافقة مع رؤيته وخلفيته هو، وإن كانت غير ذلك فيحاول أنيجعلها كذلك بشتى الوسائل وكلما اقتربت صورة الأشياء من الصورة التي يودهاكلما شعر بسعادة.
بالعقل نقول إن سلامة الرؤية شرط لسلامة الحركة،ولذلك فضعف البصيرة يوجب شدة الحذر، لا الاندفاع الأحمق، لكن كيف تجتمعسلامة العقل وضعف البصيرة؟ لا يجتمعان، وكذلك ضعف العقل وسلامة الرؤية لايجتمعان. الإنسان في تحريك جوارحه وفي كل نشاطاته المادية في الحياة يتجهنحو المستقبل مجبراً حتى ولو كان فكره مجذوباً للوراء، لأن الزمن محكومبأمر الله واللحظة التي تمر لا تعود أبداً، إلى يوم القيامة، لذلكفالانسان أحوج ما يكون للرؤية السليمة لما أمامه، لمستقبله، للمحصلةالنهائية التي لن تقبل التعديل ولا التصحيح.
الرؤية ليست ثابتة بلتتبدل وتتطور بتطور معلومات الانسان. ورؤية الأشياء غير الحكم عليها،فالرؤية هي أساس الحكم الحسن النية. وبما أن الرؤية تتطور بالمعلوماتفيمكن للحكم المبنى عليها أن يتغير أيضاً. ويمكن أن توجد الرؤية، كأساسللحكم في مسألة ما، دون أن يبنى عليها حكم فوري، فلا داعي لإصدار الأحكامدون ضرورة، فالرؤية في حد ذاتها نشاط عقلي مطلوب، لكن الحُكم لا يُطلبدائماً. والتأني يتيح الفرصة لمزيد من وضوح الرؤية وبالتالي سلامة الحكمفقط حين يلزم، فالانسان لا يحاسب على رؤيته، لأنها أمر داخلي ولكن يحاسبعلى ما يبنى عليها من أحكام وأفعال. رؤية العاقل خاصة به (لنفسه)، أماالحكم فقد يمس الغير، فالحذر الحذر من التسرع في إصدار الأحكام.
ـ الشيطان وحساسية الرؤية:
ماهو الحال حين يكون للشيطان نوع من الوجود في عقولنا، أو حين يحتل الشيطانالعقل! عندئذ تكون الرؤية بعيون الشيطان وتصبح التوجهات نحو ما يريدوالسلوكيات تلبي رغباته هو، وأعمالنا طاعة لأوامره غير المباشرة، ونحسبأننا نطيع عقولنا ولكن الحقيقة ليست كلها كذلك.الشيطان يجري من ابن آدممجرى الدم في العروق، كما جاء في الحديث الشريف، ولا يكف عن الوسوسة، حتىأثناء النوم يوسوس، فقط عند ذكر الله يخنس، وبعد ذلك يعود لممارسة نشاطهولا نعرف متى يتعب أو يستريح، ولا نحسب أنه يتركنا ما دامت الروح فينا.والشيطان لا نعرف له جوارح، لأن طبيعة تكوينه لا ترى لعيوننا، ولم نتأكدمن أن شيطاناً قطع طريقاً بيديه، أو أسال دماً بسكينه، أو ألقى قنبلة علىمصنع، أو نفث سموماً لوثت البيئة، ولكن الشيطان من خلال عقول أعوانه منالبشر يحرك جوارحهم لتفعل ما يريد من تضليل وإفساد.ولنتأمل بعض الجملالتلقائية التي تتداولها كل الألسنة مروراً بكل العقول في اللحظة انتفاضةعقلية (ندم) دون أن نتدبر ما وراءها! مثل:هذا تصرف غير إنساني!إنني لاأعرف كيف أقدمت على هذا الفعل!أين كان عقلي حين فعلت ذلك!هذا السلوك غيرمقبول ولا معقول!هذا العمل يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية!
مثل هذهالعبارات تشير إلى مُحرض خفي وراء الأعمال الشاذة التي تتنافى مع منطقالعقل الانساني، ولا يعقل أن يكون المحرض جماداً أو نباتاً أو حيواناً،والانسانية تتبرأ منه، إذن فمن يكون المحرض غير الشيطان الذي يعيث فساداًفي العقول الغافلة عن ذكر الله!
هناك عوامل وظروف تساعد الشيطان على افتراس العقل البشري، لأنه يكون في حالة غفلة أو ضعف أو عدم توازن، ويذكر من هذه العوامل ما يلي:
ـ الجهل وسوء الظن بالله البعد عنه.
ـ وفرة وسائل الترف والرفاهية واتباع الشهوات، فيركن العقل للكسل والخمول.
ـ شدة المرض وآلامه، مما يضيق الخلق ويضعف التحمل وينهك المخ.
وكممن البؤساء ـ الذين غرقوا في بحار الجهل والغفلة ـ كفروا في لحظاتالاحتضار وخرجوا من الدنيا سود الوجوه، خاسرين أنفسهم وأموالهم وأهليهم،تشيعهم شماتة إبليس.
إن الثانية التي تمر من عمر الكون لا تعود أبداً،ولا يوجد لحظتان في عمر الكون متماثلتان إطلاقاً، فكل لحظة فريدة بظروفهاومكوناتها وخلائقها. والدور الفطري للعقل هو إدارة الكيان البشري وتوجيههفي كل لحظة حسب الظروف التي لا تكف عن التجدد، ففي كل وقت يلزم ضبط اتجاهالحركة نحو الغاية، ومراجعة معدلاتها في حدود الطاقة. ونظراً للتبدلالمستمر للظروف والأحوال، فيجب يقظة العقل باستمرار، للتأكد من سلامةالرؤية أولاً، ثم ضبط مؤشرات الحركة ثانياً. فأي نتائج نتوقع إن تمكنإبليس من المشاركة في تشكيل الرؤية! الحذر الحذر، يا أولي الأبصار.
مع أجمل وأرق ألأمنيات.
مراااام
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى